أعتقد أن تعهدات أوباما بأن الولايات المتحدة وحلفاءها سيضعون حداً لأعمال القرصنة في المحيط الهندي كانت كافية في قوتها وصرامتها لتنال إعجاب المواطنين الأميركيين وتدغدغ مشاعرهم، وهي تصريحات في الحقيقة شبيهة بتلك التي أطلقها وزير خارجية إيزنهاور، "فوستر دالاس"، في عام 1953 عندما قرر الرئيس وقتها التوقيع على اتفاق الهدنة لإنهاء الحرب الكورية وتكريس انقسام البلاد، حينها احتج "دالاس" قائلا إن على الولايات المتحدة التعامل بحزم مع الصين وكوريا الشمالية إذا أرادت الحفاظ على مصداقيتها في العالم. لكن إيزنهاور، وحسب معلومات جديدة كشف عنها كاتب سيرته "جون غدوارد سميث"، علق "أعترف بأنني أجلس في المكان الخطأ" إذا كان "دالاس" قد تلفظ بما قاله، ليمضي الرئيس في خطته متجاوزاً وزير خارجيته وموقعاً على اتفاق الهدنة بعد ثلاثة أشهر. وكما يشير إلى ذلك "سميث" فقد مرت السبع سنوات ونصف السنة التي شكلت فترة رئاسة إيزنهاور دون أن يسقط رجل واحد من القوات الأميركية في معركة من المعارك، وبالطبع لم يسقط أيضاً أي من الآلاف، بل من مئات الآلاف الذين كانوا يشكلون القوات المعادية خلال الحرب الباردة. وفي تصريحات أوباما قال إن الولايات المتحدة ستعمل "مع شركائها لمنع وقوع هجمات في المستقبل، ومن أجل الاستعداد للتصدي لتلك الهجمات عندما يبرز الخطر... والتحقق من أن الذين يقومون بالقرصنة يعاقبون ويُحملون مسؤولية جرائمهم" (لكن لماذا يتعين علينا نحن القيام بذلك؟ أليس الرئيس أوباما منشغلا بما يكفي من ملفات في هذه اللحظة؟ ولماذا لا نترك الأمر لبريطانيا وإيطاليا بالذات لقيادة جهود مكافحة القرصنة، ألم تكن الصومال جزءاً من إمبراطوريتيهما السابقتين، أليس كذلك؟). لاشك أن القرصنة الصومالية أمر يسبب للعالم الكثير من المتاعب، لاسيما بالنسبة لمن يُؤسرون ويبقون قيد الاحتجاز بين أيدي القراصنة، إلا أن من يدفع حياته، في النهاية، هم هؤلاء الذين يتدخلون لإنقاذ الرهائن، وقد تفاقم الوضع مؤخراً إلى درجة توعد فيها القراصنة بالانتقام. ولابد من التذكير بأن القراصنة على رغم استيلائهم على السفن، إلا أنهم لم يقتلوا أحداً حتى وهم يحتجزون 200 رهينة، وكما صرح أوباما يبدو أن نصف أسطول حلف شمال الأطلسي يتعقب في هذة اللحظة قوارب الصيد الصومالية التي تمارس القرصنة في خليج عدن. ومع أن البعض يروق له الرجوع إلى التاريخ وعقد المقارنات بين قراصنة القرن التاسع عشر في البحر الأبيض المتوسط وبين الوضع الراهن، إلا أن الوصول إلى تسوية في عام 1805 مع القراصنة لم ينه عمليات الإغارة على السفن الأميركية في البحر المتوسط، بحيث استمرت تلك الهجمات إلى حدود عام 1815، وربما يتعين على أحدهم أن يذكر الرئيس أوباما بهذا الأمر. لكن لماذا تنتشر أصلا القرصنة في السواحل الصومالية؟ إنها، حسب رواية القراصنة، جاءت كرد فعل ضد قرصنة من نوع آخر تقوم بها صناعة الصيد الدولية، فهم كانوا في الأصل صيادين مسالمين حتى بدأت سفن الصيد الآسيوية تجتاح مياههم وتستأثر بمجمل الثروة السمكية لبلادهم، لاسيما سمك "التونا" الذي كان يمثل أحد أهم الصادرات الصومالية. ولم تكن في الصومال طبعاً حكومة تتحدث باسمهم وتدافع عن مصالحهم، أو ترفع قضيتهم إلى المحاكم الدولية للاحتجاج ضد سرقة سمكهم، فالصومال ومنذ استقلاله في عام 1960 دخل في متوالية من الصراعات والحروب مع جيرانه، حيث اندلعت الحرب بينه وبين إثيوبيا وكينيا في عامي 1964 و1967، ثم جاء انقلاب عسكري وتولى السلطة نظام موال لموسكو في أوج الحرب الباردة إلى أن انقلبت موسكو وقررت دعم إثيوبيا ضد الاجتياح الصومالي لمنطقة "أوجادين" الإثيوبية، فوجد الصوماليون صديقاً جديداً في الولايات المتحدة. ولم ينته الأمر عند ذلك، بل أعقبته حروب الميليشيات ومشاكل اللاجئين والجفاف والمجاعة التي دفعت في مرحلة من المراحل واشنطن إلى التدخل لوقف الفوضى أدى إلى تورط القوات الأميركية وسحل جنودها في شوارع مقديشو في مشهد حُول لاحقاً إلى فيلم سينمائي مؤثر، لتخرج أميركا بعدها من البلاد وفق تفاصيل يعرفها الجميع. وفي أثناء ذلك استطاعت حركة إسلامية أصولية السيطرة على السلطة وفرضت قدراً معقولا من الأمن والاستقرار، لكن حرب أميركا على الإرهاب لم تترك مجالا لتطور النظام فأوعزت واشنطن لإثيوبيا بغزو الصومال. غير أن إثيوبيا لم تتحمل بدورها الفوضى المستشرية في البلاد ولم تستطع وأد المشاعر القومية والدينية اللصوماليين فاضطرت إلى الخروج من هناك في العام الماضي. ولابد أنه في غضون ذلك كان أحد الصيادين الجوعى يرقب السفن وهي تمر أمام الساحل فداعبته فكرة التعرض لها، وهكذا وخلال شهور فقط تحول هؤلاء الصيادون إلى أصحاب ملايين دون أن يكونوا مضطرين لإيذاء أحد. واليوم تتناقل وسائل الإعلام أن الدبلوماسيين الأميركيين يحاولون تولي الأمور عن العسكريين لوقف الفوضى الصومالية، لكن السؤال هو: لماذا لا ينخرط المجتمع الدولي كله في جهد عالمي يشارك فيه الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة ودوريات من حلف شمال الأطلسي للوصول إلى اتفاق حول من يستطيع الصيد في المياه الصومالية؟ وإلى جانب ذلك السعي إلى تنصيب حكومة مؤقتة لإدارة البلاد. ولماذا أيضاً لا تفكر الدول الكبرى وتلك المجاورة للصومال في التوصل إلى اتفاق ترفع بموجبه تلك الدول أيديها عن الصومال وتحترم خيارات أهله الوطنية؟ وأخيراً لماذا لا تؤسس شركات الشحن الكبرى على سبيل المثال صندوقاً دولياً لمساعدة الصوماليين على استعادة قدرتهم التصديرية؟ ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"